وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ ﴿الطور:6﴾
الدكتور: زغـلول النجـار
ضمن قسم بخمس من آيات الله في الخلق علي حتمية وقوع العذاب بالمكذبين بالدين الخاتم, وعلي أنه لا دافع أبدا لهذا العذاب عنهم. جاء هذا القسم القرآني العجيب في مطلع سورة الطور, وسورة الطور مكية, شأنها شأن كل السور التي أنزلت بمكة المكرمة, تدور محاورها الأساسية حول قضية العقيدة بأبعادها المختلفة من الإيمان بالله الواحد الأحد الفرد الصمد, وبملائكته, وكتبه, ورسله, وبالبعث والجزاء, وبالخلود في الآخرة, إما في الجنة أبدا أو في النار أبدا. وتبدأ السورة بعد هذا القسم بمشهد من مشاهد الآخرة فيه استعراض لحال المكذبين برسالة خاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله عليه وسلم), وهم يدفعون من ظهورهم إلي نار جهنم دفعا, وقد كانوا من المكذبين بها!!
ثم تنتقل الآيات إلي استعراض حال المتقين وهم يرفلون في جنات النعيم ثوابا لهم علي الإيمان بالله, والخوف من عذابه!!
وتنتهي السورة بخطاب إلي النبي الخاتم, والرسول الخاتم( صلي الله عليه وسلم) يحثه علي المضي في دعوته إلي عبادة الله الخالق وحده (بغير شريك ولا شبيه ولا منازع) مهما صادفه في ذلك من مصاعب في مواجهة الكم الهائل من مؤامرات المتآمرين, وكيد المكذبين وعنتهم, الذين يتهددهم الله( تعالي) بما سوف يلقونه من صنوف العذاب يوم القيامة, بل بعذاب قبل ذلك في الحياة الدنيا, ويأتي مسك الختام بمواساة وتعضيد لرسول الله( صلي الله عليه وسلم) في صورة تكريم لم يسبق لنبي من الأنبياء, ولا لرسول من الرسل أن نال من الله( تعالي) تكريما مثله, وذلك بقول الحق( تبارك وتعالي) موجها الخطاب إليه( صلي الله عليه وسلم):
واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا وسبح بحمد ربك حين تقوم* ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم*( الطور:49,48).
والآيات الست التي سبق بها القسم في مطلع سورة الطور هي علي التوالي: الطور وهو الجبل المكسو بالأشجار, والجبل غير المكسو بالخضرة لا يقال له طور, إنما يقال له جبل إذا كان شاهق الارتفاع بالنسبة للتضاريس حوله, ويسمي تلا إذا كان دون ذلك, وتليه الأكمة أو الربوة أو النتوء الأرضي, ويليه النجد أو الهضبة, ويليه السهل, من تضاريس الأرض, والمقصود في القسم القرآني هنا ـ علي الأرجح ـ طور سيناء, الذي كلم الله( تعالي) عنده موسي( عليه السلام), والذي نزلت عليه الألواح, وأقسم الله( سبحانه وتعالي) بطور سيناء هذا تكريما له, وتذكيرا للناس بما فيه من الآيات, والأنوار, والتجليات, والفيوضات الإلهية, مما جعله بقعة مشرفة من بقاع الأرض لاختياره بإرادة الله( تعالي), وتجليه له. والآية الثانية التي جاء بها القسم هي وكتاب مسطور, وقيل فيه إنه اللوح المحفوظ, وقيل إنه القرآن الكريم الذي ختم الله( سبحانه) به وحي السماء, وقيل هو التوراة التي تلقاها نبي الله موسي( عليه السلام) في الألواح التي أنزلت علي جبل الطور, وقيل هو إشارة إلي جميع الكتب التي أنزلها ربنا( تبارك وتعالي) علي فترة من الرسل بلغ عددهم ثلاثمائة وخمسة عشر كما أخبرنا المصطفي( صلي الله عليه وسلم), لأن أصلها واحد, ورسالتها واحدة, كما قيل إنها صحائف أعمال العباد.
والقسم الثالث جاء بـ الرق المنشور والرق هو جلد رقيق يكتب فيه, وقد يشير إلي الورق الذي يكتب عليه وإلي الألواح التي ينقش فيها, لأن الرق هو كل ما يكتب فيه, والمنشور أي المبسوط غير المطوي, وغير المختوم عليه, بمعني أنه مفتوح أمام الجميع, يستطيعون قراءته أو الاستماع إليه بغير حجر أو منع, فالقرآن الكريم يقرأه الخلق جميعهم, ويستمعون إليه بغير قيود أو حدود من أي نوع, وهكذا كانت الكتب السماوية التي سبقته بالنزول قبل ضياعها أو تحريفها,وفي النشر إشارة إلي سلامة الكتب السماوية من كل نقص وعيب. وجاء القسم الرابع بصياغة والبيت المعمور وهو بيت في السماء السابعة حيال الكعبة( أي مقابلتها إلي أعلي علي استقامتها), وهو أيضا حيال العرش إلي أسفل منه وعلي استقامته, تعمره الملائكة, يصلي فيه كل يوم سبعون ألفا منهم ثم لا يعودون إليه كما روي ابن عباس (رضي الله عنهما), عن رسول الله( صلي الله عليه وسلم), وهو لأهل السماء كالكعبة المشرفة لأهل الأرض, ويروي عن رسول الله( صلي الله عليه وسلم) أنه قال يوما لأصحابه: هل تدرون ما البيت المعمور؟ قالوا: الله ورسوله أعلم, قال(صلي الله عليه وسلم): فإنه مسجد في السماء بحيال الكعبة لو خر لخر عليها, يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا منه لم يعودوا آخر ما عليهم. ويروي عنه( صلي الله عليه وسلم) وصفا مشابها للبيت المعمور في حديث الإسراء والمعراج, كما جاء في الصحيحين. وجاء القسم الخامس بصياغة والسقف المرفوع وفيه قيل هو السماء القائمة بغير عمد مرئية, كما جاء علي لسان الإمام علي( كرم الله تعالي وجهه) ووافقه علي ذلك كثير من المفسرين, وإن قال الربيع بن أنس إنه العرش الذي هو سقف لجميع المخلوقات. أما البحر المسجور فقد تعددت آراء المفسرين فيه, كما سنري في الأسطر القليلة التالية, ولكن قبل التعرض لذلك لابد لنا من استعراض الدلالة اللغوية للفظي البحر والمسجور. المدلول اللغوي للبحر المسجور (البحر) في اللغة ضد البر, وقيل إنه سمي بهذا الاسم لعمقه واتساعه, والجمع( أبحر) و(بحار) و(بحور), وكل نهر عظيم يسمي بحرا, لأن أصل البحر هو كل مكان واسع جامع للماء الكثير, وإن كانت لفظة( البحر) تطلق في الأصل علي الماء المالح دون العذب, كذلك سمت العرب كل متوسع في شيء( بحرا) حتي قالوا: للمتوسع في علمه( بحرا), وللتوسع في العلم( تبحر), وقالوا: فرس( بحر) أي واسع الخطي, سريع الجري, وقيل: ماء بحر, أي ملح( مالح), و(أبحر) الماء أي ملح, و(أبحر) الرجل أي ركب البحر, و(بحر) أذن الناقة أي شقها شقا واسعا فشبهها بسعة البحر علي وجه المجاز والمبالغة, ومنها سميت البحيرة وهي الناقة إذا ولدت عشرة أبطن شقوا أذنها, وتطلق, فلا تركب ولا يحمل عليها, والبحيرة ابنة السائبة وحكمها حكم أمها عند العرب في الجاهلية. أما وصف البحر بصفة( المسجور) فالصفة مستمدة من الفعل( سجر) و(السجر) تهييج النار, يقال( سجر) التنور أي أوقد عليه حتي أحماه, و(السجور) هو ما يسجر به التنور من أنواع الوقود, كما يقال( سجر) الماء النهر أي ملأه, ومنه( البحر المسجور) أي المملوء بالماء, المكفوف عن اليابسة, و(الساجور) خشبة تجعل في عنق الكلب فيقال له كلب( مسوجر) أي محكوم, والمسوجر المغلق المحكم الإغلاق من كل شيء.
شروح المفسرين
في تفسير القسم القرآني بالبحر المسجور أشار ابن كثير( يرحمه الله) إلي قول الربيع بن أنس أنه: هو الماء الذي تحت العرش الذي ينزل الله منه المطر الذي تحيا به الأجساد في قبورها يوم معادها, أي أنه بحر من ماء خاص محبوس عند رب العالمين, ينزله( سبحانه وتعالي) يوم البعث فينبت كل مخلوق بواسطة هذا الماء من عجب ذنبه كما تنبت البقلة من حبتها علي ما روي عن رسول الله( صلي الله عليه وسلم) من قول. وأضاف بن كثير و[قال الجمهور هو هذا البحر, واختلف في معني المسجور فقال بعضهم المراد أنه يوقد يوم القيامة نارا كقوله تعالي: وإذا البحار سجرت أي أضرمت فتصير نارا تتأجج محيطة بأهل الموقف كما روي عن علي وابن عباس, وقال العلاء بن بدر: إنما سمي البحر المسجور لأنه لا يشرب منه ماء, ولا يسقي به زرع, وكذلك البحار يوم القيامة].
[وعن سعيد بن جبير: والبحر المسجور يعني المرسل, وقال قتادة: المسجور المملوء, واختاره ابن جرير, وقيل: المراد بالمسجور الممنوع المكفوف عن الأرض لئلا يغمرها فيغرق أهلها, قاله ابن عباس وبه يقول السدي وغيره, وعليه يدل الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب, عن رسول الله( صلي الله عليه وسلم) قال: ليس من ليلة إلا والبحر يشرف فيها ثلاث مرات يستأذن الله أن ينفضح عليهم فيكفه الله عز وجل]. وذكر صاحبا تفسير الجلالين( رحمهما الله) في شرح دلالة القسم القرآني( والبحر المسجور) أي المملوء وذكرا أنه قول قتادة. وقالا قال مجاهد الموقد أي الذي سيسجر يوم القيامة لقوله تعالي: وإذا البحار سجرت.
وقال صاحب الظلال( يرحمه الله) كلاما مشابها يشير إلي أن البحر المسجور هو المملوء بالماء في الدنيا, أو المتقد بالنار في الآخرة, أو أن هذا التعبير يسير إلي خلق آخر كالبيت المعمور يعلمه الله.
وذكر صاحب صفوة البيان لمعاني القرآن( غفر الله له) في تفسير قول الحق( تبارك وتعالي)( والبحر المسجور) ما نصه:
أي المملوء ماء يقال: سجر النهر, ملأه, وهو البحر المحيط, والمراد الجنس, وقيل الموقد نارا عند قيام الساعة, كما قال تعالي: وإذا البحار سجرت, أي أوقدت نارا, من سجر التنور يسجره سجرا, أحماه, وصف البحر بذلك إعلاما بأن البحار عند فناء الدنيا تحمي بنار من تحتها فتتبخر مياهها, وتندلع النار في تجاويفها وتصير كلها حمما. وذكر أصحاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم: إن البحر المسجور هو المملوء, وذكر صاحب صفوة التفاسير( بارك الله في عمره) أنه الموقد نارا يوم القيامة لقوله وإذا البحار سجرت أي أضرمت حتي تصير نارا ملتهبة تتأجج وتحيط بأهل الموقف.